فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [79].
{فَتَوَلَّى} أي: فأعرض صالح: {عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} المتضمنة لتخويف العذاب عنه {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فأمرتكم بكل خير، ونهيتكم عن كل شر {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} أي: من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهوايتكم.
والظاهر أن صالحًا عليه السلام كان مشاهدًا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم، بعد ما أبصرهم جاثمين، تولِّيَ مُغتمٍّ متحسرٍّ على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم بقوله: {يا قَوْمِ} الخ، كذا في الكشاف، أو خاطبهم خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر حيث قال: «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا»- كما رواه البخاري- لا تحزنًا، ولكن إعلامًا بنصر الله له، وتحقيق رسالته، زيادةً في حزنهم وتوبيخهم، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم، ولكن لا يتكلمون. كما في الصحيح. ويجوز عطف قوله: {فَتَوَلَّى} على قوله: {فأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك، لا بعده. فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب. والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب- والله أعلم-.
تنبيهات:
الأول: نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود، لمكان العظة والإعتبار مفصلًا، وإلا فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك، وما سكت عن بيانه من تلك القصص، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد القطع به، اللهم إلا لزيادة الإتعاظ، وتقوية العبرة، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عادًا لما هلكت، عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحًا عليه السلام، وكانوا قومًا عربًا، وصالح من أوسطهم نسبًا، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عُشَرَاءَ، تمخض من صخرة صماء، عينوها بأنفسهم، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها الكائبة، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه.
فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عَمْرو بن لَبِيد، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعمر بن جلمس.
وكان لجندع بن عَمْرو ابن عم له، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لَبِيد بن جواس، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضًا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل رحمه الله:
وكانت عصبةٌ من آل عمروٍ ** إلى دين النبيّ دعوا شهابا

عزيزَ ثمودَ كلِّهم جميعًا ** فهم بأن يجيب ولو أجابا

لأصبح صالحٌ فينا عزيزًا ** وما عدلوا بصاحبهم ذُؤابا

ولكن الغواة مِنَ آل حجر ** تولوا بعد رشدهُم ذُبابا

وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يومًا، وتدعه لهم يومًا، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} وقال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت- على ما ذكر- خلقًا هائلًا، ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم.
فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير: قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}.
وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}، وقال: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك- والله أعلم-.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بن غنم بن مجلز، تكنى بأم غنم، وهي من بين عبيد بن المهل، أخي رُميل بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب بن عَمْرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها صدوف بن المحيا بن دهر بن المحيا، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له وادي المحيا، وهو المحيا الأكبر، جد المحيا الأصغر أبي صدوف.
وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح، وأعظمه به كفرًا.
وكانتا تحتالان أن تُعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرت به من مواشيهما.
وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف، من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.
وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح، حتى رق المال.
فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد، بطنها الذي هي منه.
وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها، فقال لها: ردي عليّ ولدي فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد، فقال لهم صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.
فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.
فقال بنو مرداس: والله لتعطِنّه ولده طائعة أو كارهة.
فلما رأت ذلك أعتطته إياهم.
ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل، فدعت صدوف رجلًا من ثمود يقال له الحُبَاب لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.
ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جندع، رجلًا من أهل قُرْح، وكان قدار رجلًا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له صهياد، ولم يكن لأبيه سالف الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش سالف، وكان يدعى له وينسب إليه.
فقالت: أعطيتك أي: بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.
وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عَمْرو، من أشراف رجال ثمود، وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه.
فانطلق قدار بن سالف، وصدع بن مهرج، فاستنفرا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر.
أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له، هويل بن مبلغ خال قدار بن سالف، أخو أمه لأبيها وأمها، كان عزيزًا فيأهل حجر، ودعير بن غنم بن داعر، وهو من بني خلاوة بن المهل.
ودأب بن مهرج، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.
فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجهًا، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمرت فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها.
انطلق سقبها حتى أتى جبلًا منُيفًا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها، وإسم الجبل فيما يزعمون صنو، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم مصدع بن مهرج، فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.